- 104 مليار دولار حجم السوق.. والإنشاءات محرك النمو الاقتصادي
- برج جدة، جدة سنترال، ومترو ضخم: مشاريع تعيد رسم خريطة المدينة
- الاستدامة والرقمنة تدخلان المعادلة العمرانية الجديدة
- القطاع الخاص شريك في البناء.. والاستثمار الأجنبي يجد أرضًا خصبة
يشكّل قطاع الإنشاءات في المملكة العربية السعودية أحد الأعمدة الحيوية التي تستند إليها “رؤية السعودية 2030” لتحقيق التحول الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي تنشده الدولة. فمع تنامي الحاجة إلى بنى تحتية حديثة، ومدن ذكية، ومرافق ترفيهية وتعليمية وصحية، اتجهت المملكة نحو استثمارات ضخمة في هذا القطاع الحيوي الذي بات يشكل أحد أسرع القطاعات نموًا على مستوى المنطقة والعالم.
وفي حين تمتد موجة المشاريع الكبرى من شمال المملكة إلى جنوبها، فإن مدينة جدة تحديدًا تبرز كنموذج متسارع في النمو العمراني، من خلال مشاريع استراتيجية تعكس حجم التغيير والتحول الذي تشهده المملكة.
نمو اقتصادي يقوده الأسمنت والحديد
تشير التقديرات الاقتصادية إلى أن حجم قطاع الإنشاءات في السعودية بلغ أكثر من 104 مليارات دولار في عام 2024، مع توقعات بأن يتجاوز 170 مليار دولار بحلول 2030، مدفوعًا بزخم المشاريع العملاقة التي تطلقها الدولة في مختلف المجالات. هذا النمو لا يقتصر على البنية التحتية فحسب، بل يشمل قطاع الإسكان والتطوير الحضري والمناطق الاقتصادية والسياحية، وهي محاور أساسية تسهم في تنويع مصادر الدخل الوطني.
وتعكس هذه الأرقام حجم التغير البنيوي في الاقتصاد السعودي، الذي يشهد تحوّلاً من الاعتماد الأحادي على النفط، إلى اقتصاد يقوم على التنوع والإنتاج والاستثمار طويل الأجل. كما أصبح القطاع مصدرًا مهمًا لتوليد فرص العمل، وتوطين الوظائف الفنية والهندسية، في ظل حرص الدولة على رفع نسب التوظيف في المشاريع الحيوية.
جدة: واجهة عمرانية تتجدّد
في هذا المشهد المتسارع، تظهر مدينة جدة كأحد أبرز مراكز التحول الحضري، حيث تشهد سلسلة من المشاريع الكبرى التي من شأنها إعادة تشكيل النسيج العمراني للمدينة. من أبرز هذه المشاريع “جدة سنترال”، المشروع الذي يجري تطويره على ساحل البحر الأحمر بقيمة تقدّر بنحو 20 مليار دولار، ويضم وحدات سكنية وفندقية، ومرافق ثقافية، وميناءً ترفيهيًا، ضمن مخطط عمراني يستهدف تحويل قلب جدة إلى مركز سياحي واستثماري من الطراز العالمي.
ومن المشاريع الأخرى اللافتة، “مدينة جدة الاقتصادية” التي تضم برج جدة، المرشّح ليكون أطول ناطحة سحاب في العالم بارتفاع يتجاوز كيلومترًا واحدًا. رغم التحديات التي واجهت المشروع، إلا أن إعادة جدولة تنفيذه تعكس إصرار الدولة على إتمام هذه المعالم العالمية كجزء من إعادة تقديم جدة للعالم كمدينة ديناميكية حديثة.
تحوّل في التفكير الحضري
لا يقتصر التطوير على حجم المشاريع أو طموح تصميماتها، بل يتعداه إلى الفلسفة التي تقوم عليها. فالمدن الجديدة التي تُبنى في السعودية اليوم – ومنها مشاريع جدة – تعتمد على مبادئ الاستدامة، والذكاء الحضري، وكفاءة استخدام الطاقة، والتكامل بين المرافق والخدمات.
كما أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من عملية البناء، مع إدخال مفاهيم مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، والتحكم الذكي في البنية التحتية، والمراقبة البيئية للمشاريع. وهو ما يجعل قطاع الإنشاءات السعودي في مقدمة التجارب الإقليمية التي تعتمد الرقمنة في التخطيط والتنفيذ.
التحديات… وفرص التحسين
رغم الزخم الذي يشهده القطاع، إلا أنه يواجه بعض التحديات. من أبرزها ارتفاع تكاليف المواد الخام بسبب الضغوط التضخمية العالمية، إضافة إلى الحاجة لتسريع إجراءات التراخيص، وتطوير الأنظمة التنظيمية لتكون أكثر مرونة وشفافية، خاصة في ظل مشاركة القطاع الخاص في تنفيذ العديد من المشاريع.
كما أظهرت بعض المشاريع العملاقة، مثل مدينة “نيوم”، أهمية التوازن بين الطموح والواقعية من حيث التمويل وتوزيع الموارد. ومع ذلك، فإن مرونة الجهات المعنية، وقدرتها على إعادة هيكلة الأولويات، تشير إلى نضج في إدارة المشاريع الكبرى وقدرة على تجاوز التحديات بأدوات فعالة.
نحو مستقبل مبني على الشراكات والاستدامة
من الملاحظ أن الدولة باتت تركز على الشراكات الاستراتيجية مع القطاع الخاص، سواء المحلي أو الدولي، من أجل تسريع وتيرة الإنجاز، ونقل المعرفة، وتحقيق أعلى درجات الكفاءة والجودة. ويُعد فتح الملكية الأجنبية في بعض القطاعات العقارية أحد المؤشرات على انفتاح بيئة الاستثمار وتحفيز السوق.
كما أن اعتماد سياسات الاستدامة بات مطلبًا أساسيًا في جميع المشاريع الجديدة، وهو ما يتماشى مع التوجهات العالمية في مكافحة التغير المناخي وتوفير بيئات عمرانية صحية.
جدة: من مدينة تقليدية إلى محور حضري مستقبلي
المتابع لحركة التطوير في جدة يلاحظ انتقالًا نوعيًا من مدينة ساحلية ذات نسيج عمراني تقليدي إلى مدينة حديثة متعددة الاستخدامات، تُبنى بأسس تخطيطية معاصرة. هذا الانتقال ليس شكليًا فحسب، بل يترافق مع تحسينات نوعية في النقل، والخدمات العامة، والمساحات المفتوحة، مما سيؤثر إيجابًا على جودة الحياة لسكان المدينة.
ومن المتوقع أن تلعب مشاريع النقل الكبرى، مثل مشروع “مترو جدة”، دورًا محوريًا في تسهيل الحركة، وتقليل الاعتماد على المركبات الخاصة، وربط مختلف مناطق المدينة بشكل فعال. كما أن الاستعداد لاستضافة فعاليات رياضية كبرى، مثل كأس العالم 2034، يضيف بعدًا استراتيجيًا جديدًا للتوسع في البنية التحتية الرياضية والسياحية.
خلاصة
يمثل قطاع الإنشاءات في السعودية نموذجًا حيًا على كيفية توظيف البنية التحتية كأداة للتنمية الوطنية الشاملة، وليس مجرد مشاريع عمرانية تقليدية. وفي مدينة جدة تحديدًا، يتجسد هذا التحول بوضوح من خلال مشروعات عملاقة تُبنى بفكر جديد، وروح تطلعية، وسعي متواصل نحو الريادة.
وإذا كان العقد القادم سيشهد ذروة هذه المشاريع، فإن ما يجري اليوم من تخطيط وبناء وتنفيذ سيكون الأساس الذي تُبنى عليه مدن المستقبل، ومجتمعات أكثر استدامة، واقتصاد أكثر تنوعًا وقدرة على المنافسة عالميًا.
